ريف دمشق-سانا
في بلدة عين منين، بمحافظة ريف دمشق التي لطالما اشتهرت بنسيمها الجبلي المعتدل، تغيّر المشهد هذا الصيف.
في ساحة البلدة، جلس الحاج أبو مرعي تحت مظلة قماشية، يراقب المارة وهم يسرعون الخطى بحثًا عن ظل، يقول وهو يلوّح بمروحة يدوية: “لم نعرف هذا الحر من قبل… حتى الجبل صار يلفظ أنفاسه”.
في عين منين، كما في باقي بلدات ريف دمشق، لم تعد الحرارة مجرد رقم في نشرة الطقس، بل أصبحت واقعًا يوميًا يفرض نفسه على الزراعة، والصحة، والعمل، وحتى تفاصيل الحياة اليومية.
من هنا تبدأ الحكاية، لتوثيق كيف غيّرت موجات الحر وجه الحياة في المحافظة.
الصحة العامة في مواجهة الإنهاك الحراري
في مشفى التل الوطني، سجلت وحدة الإسعاف خلال أسبوع واحد أكثر من 40 حالة إنهاك حراري، معظمها لأطفال وكبار سن، الدكتور سميح كردي، اختصاصي الأمراض الداخلية، يوضح: “نواجه موجات حر غير مسبوقة، والوعي المجتمعي لا يزال ضعيفًا، وخاصة في المناطق الريفية التي تفتقر إلى وسائل التبريد”.
وفي عين منين، رُصدت حالات إغماء بين المصلّين أثناء صلاة الجمعة، نتيجة الحرارة المرتفعة وانقطاع الكهرباء، ما دفع بعض المساجد إلى تقليص مدة الخطب وتوزيع الماء على الحضور.
الزراعة تئن تحت الشمس
في الزبداني، اشتكى المزارعون من تبخر مياه الآبار السطحية، وذبول أوراق التفاح قبل نضج الثمار،
أبو نزار، مزارع عنب منذ 30 عامًا، يقول: “العنب ينضج بسرعة، لكن الطعم تغيّر، والكمية أقل، الحرارة تقتل النكهة”.
وفي عين منين، تأثرت الزراعة، حيث أبلغ مزارعون عن تساقط الثمار قبل نضجها، وظهور تشققات في التربة بسبب الجفاف، ما اضطرهم لاستخدام مياه الشرب في الري، وسط غياب الدعم الفني.
الصناعة والعمالة تحت الضغط
في منطقة عدرا الصناعية، اضطر أصحاب الورشات إلى تعديل ساعات العمل، لتبدأ من الخامسة صباحًا وتنتهي قبل الظهر، عامل الحدادة محمد العلي يقول: “الحديد صار يشتعل بين أيدينا، والكمامة لا تكفي، نعمل نصف يوم فقط، والباقي نبحث عن ظل”.
كما أشار إلى أن الإنتاجية انخفضت بنسبة 30%، وأن بعض الورشات أغلقت مؤقتًا بسبب عدم توفر وسائل التبريد.
الحياة اليومية تتغير – عين منين نموذجًا
في عين منين، لم تعد الشرفات ملاذًا مسائيًا، بل مصدرًا إضافيًا للحرارة.
في السوق الشعبي، اشتكى الباعة من فساد الخضار بسرعة، واضطر بعضهم لاستخدام الثلج لتبريد البضائع، ما رفع التكاليف، وفي جرمانا ودوما، لجأت الأسر إلى النوم في الطوابق السفلية، بينما نزحت عائلات إلى مصايف بلودان ومضايا هربًا من الحر.
الدفاع المدني في حالة تأهب
في مركز الدفاع المدني في التل، أكد الرائد سامر ديوب أن عدد الحرائق ارتفع بنسبة 60% مقارنة بالعام الماضي، معظمها في الأعشاب الجافة والمزارع المهملة، كما أشار إلى نقص في معدات الإطفاء، وضرورة تعزيز فرق التدخل السريع في المناطق الجبلية مثل عين منين، التي شهدت حرائق صغيرة قرب الأحراش المحيطة.
التحليل العلمي
حسب مديرية الأرصاد الجوية في ريف دمشق، فإن المحافظة تتأثر حاليًا بامتداد المنخفض الهندي الموسمي، الذي يرفع درجات الحرارة إلى مستويات قياسية، رسم بياني صادر عن المديرية يُظهر أن متوسط الحرارة في تموز 2025 بلغ 42° مئوية، مقارنة بـ 36° في تموز 2015، الخبير المناخي د. نزار خضور يوضح: “نحن أمام ظاهرة تُعرف بالقبة الحرارية، وهي طبقة ضغط مرتفع تحبس الحرارة وتمنع التبريد الليلي، ما يؤدي إلى موجات حر طويلة ومكثفة”.
من عين منين إلى الزبداني، ومن التل إلى عدرا، يواجه ريف دمشق تحديًا مناخيًا غير مسبوق، يتطلب استجابة متعددة المستويات:
تعزيز التوعية الصحية في القرى والبلدات الجبلية.
دعم المزارعين بمعدات ري حديثة ومبيدات مقاومة للحرارة.
توفير وسائل تبريد في أماكن العمل والمدارس.
دعم الدفاع المدني بمعدات إضافية، وخاصة في المناطق الجبلية.
إدراج تغير المناخ في الخطط التنموية المحلية.
لم يعد ارتفاع الحرارة مجرد رقم في نشرات الطقس، بل تحوّل إلى ظاهرة يومية تُعيد تشكيل تفاصيل الحياة في المدن والقرى، وفي ظل التغيرات المناخية المتسارعة، باتت موجات القيظ تختبر قدرة المجتمعات على التحمّل، وتُعيد طرح أسئلة حول أنماط البناء، والزراعة، وحتى السلوك اليومي، إنها دعوة للتأقلم بوعي، ولإعادة النظر في علاقتنا مع الطبيعة،فكل درجة زائدة تحمل عبَرة، وتفرض علينا مسؤولية التوثيق، والتخطيط، والتغيير.